تصنيفات

الأحد، 16 نوفمبر 2014

كيف أصبحتُ غبيا؟ لـ"مارتن باج": التشبث بـ"الذكاء" في الزمن الصعب



السعادة قد تكمن في التغابي، لكن الغباء ليس حلا لتناقضات الحياة وتضادها مع مسارنا واختياراتنا.
ففي ذروة انهماكنا في حياة تقدس "الإستهلاك" وتعزز "الفردية" يجب أن لا نغفل عن الحياة الحقيقية التي تشكل ذواتنا وتسمو بنا نحو أهدافنا.
كيف أصبحت غبيا؟ ذلك السؤال الذي استطاع  "مارتن باج" أن يحوله في رواية ساخرة إلى حوار ذاتي يفاصل بين الفرد وتيارات الحياة الإستهلاكية والمجتمع العصري ومتطلباتهما.
فـ"أنطوان" الذي عذّبه ذكاؤه وقد تأكد أن "كلمة الذكاء تعبّر عن حماقات أُحْسِنَ بناؤها وزين لفظها وأنها كلمة مؤذية جدا" مفضلا الحماقة على كون المرء "مثقفا" لم يستطع تمالك نفسه معتبرا أن "العقل سبب شقائه" وأنه من اولئك الذين "لايستطيعون إثمار حسناتهم، بل ممن تتحول حسناتهم سيئات" فالذكاء عاهة وكما يقال "من يزيد علمه يزيد ألمه".
اتخذ "أنطوان" قرارا بأن "يغير حياته بطرق كثيرة، قبل أن يصبح غبيا، حلولا أخرى ليذلل صعوبات المشاركة في الحياة" محاولته الأولى والتي قد تعتبر خرقاء كانت مليئة بأمل صادق تلخصت في اختياره أن يكون "سكيرا، ثملا، لا يعود بحاجة للتفكير" وبعد الاستعانة بقواميس ومعاجم الكحول واستعارتها من المكتبة ليلمَّ بالموضوع قبل الشروع في الشرب.
زار الخمارة التي لاتبعد عن مسكنه أكثر من 50 مترا، جالس "ليوناردو" وأبدى له رغبته في تعلم السكر، وبعد مداولة الفكرة معه طلب له قدحا من البيرة، لكن نصف الكأس كان كافيا لنقله إلى المشفى في حالة غيبوبة جرّاء التسمم.
المحاولة الثانية: كانت الإنتحار، فشخصيات كثيرة أعجب بها امتلكت شجاعة اختيار لحظة موتها، وقرر الإنضمام إلى مركز لتعليم الانتحار وبعد تعلمه الكيفية "فقد براءة الهاوي ليكتسب خبرة المحترف، لم تعد لديه الرغبة فيه". "لم يكن أنطوان يرغب في العيش، هذا مؤكد، ولكنه أيضا لم يكن يريد أن يموت".
استمرار المعاناة جعلت "أنطوان" مرة أخرى يجزم بأنه مريض بـ"الإفراط في التفكير"، وبعد اكتشافه "يقين الصلة بين شقائه وتطرف عقله" قرّر ببساطة أنه "يريد أن يعيش لا أن يعرف حقيقة الحياة" فتحسين حياته هو أن يكون غبيا..
إن اشتراطات الحياة التي تثقل كاهل الفرد إذا لم يجابهها بموقف "مثقف" فإنها ستتحول إلى تعاسة قاتلة تسلب منا إنسانيتنا وأخلاقنا.
صحيح أن كثيرا من الاكتشافات التي أدت إلى تحولات حضارية كان "أولاد عاجزون ليس لديهم ما يفعلونه غير التفكير وإمضاء الوقت فيه وتخيل حكايات وابتكارات" لكن ذلك ليس كافيا للتضحية بوجود الأصدقاء والحياة الاجتماعية، إن "الذكاء الوظيفي" الذي يخدم علما أو قضية أو مهنة هو وصفة يمكن تناولها في وجه ما يعترينا من رغبة في الانعزال أو التماهي مع تيار الإستهلاك.
إن أكثر ما كان يخشاه "أنطوان" هو "الثمن الذي ينبغي دفعه لامتلاك اليقينيات" فالإنسان الذي لايملك مبادئا يواجه بها السائد، سيكون عرضة لأمراض العصر والحيرة والتردد والشتات، كان بكل سذاجة يفضل التخلي عن "ذكائه" مقابل امتلاك اليقين بأي قضية مهما كانت تافهة.
هناك أعراض يمكن من خلالها تفهم "الغباء" الذي يجب الهرب منه؛ إنها يمكن أن تتلخص في "نسيان الإدراك وعدم الشغف بالشأن اليومي، وتصديق السياسة، وشراء ثياب جميلة ومتابعة الأحداث الرياضية، والحلم بآخر طراز سيارة، ومشاهدة الأخبار التلفزيونية، والتجرؤ على كره الأشياء وعدم امتلاك القدرة على الحكم على الأشياء" إنها أمور تجعلك منساقا ضمن "عقل كبير يدعى "الرأي العام"، فأنطوان في رحلته الغبية كان يفضل عدم فهم تلك الأمور متعذرا بأنه يفضل ان يكون مثل الناس "سأكون بينهم، أقاسمهم الأمور ذاتها".
إن الغباء يكمن في الخضوع لـ"الأخلاق الليبرالية" مع امتلاك حس غير "مبال بالعواقب، أناني، لا هم له سوى المال، لا هم ولا قضية وجودية كبرى سوى طريقة كسب أكثر ما يمكن منه".
حاول "أنطوان" أن يهرب إلى "الغباء" بتناول حبوب "الأوروزاك" بحيث تغادره الشكوك والقلق وتزين له الواقع كـ"مسحوق مضئ مذهب وملون" دون منغص "الأسئلة والمبادئ التي كانت تتشابك في عقله، ولم يعد "أنطوان" متأثرا بـ"بؤس العالم، والاعتداءات، والحروب، والتفاوت الاجتماعي" فقط أصبح واقعيا تحت تأثير "الأوروزاك".
وليبرهن "أنطوان" على نجاحه في الاندماج بالمجتمع الجديد اقتحم "الماكدونالدز: كهف الرأسمالية الإمبريالية، تخلص من عباراة اللباقة وتجنبها، قصّ شعره وقلد اختياراتهم في اللباس واشترى حذاء من ماركة نايك وجينز من ماركة لوفيز وكنزة ريضاية من أديداس واقترف زيارة إلى الفناء البرجوازي: غالييري، مرّ بمحل ألعاب الفيديو لينهمك في معركة لإبادة المخلوقات، وأصبح بطلا.. ورغب بعدها في إثارة النساء، ومشابهة فرسان الأحلام الموجودين على أغلفة المجلات وانتسب في صالة لكمال الجسام، وأقنعه جديّة زبائن الصالة بأهمية نشاطه" لم يعد كما كان وانضم إلى "رافي" الصديق القديم الذي أثرى من بيع الأسهم والسندات، وامتلك ثروة بعد إجراء الحاسوب لعمليات حسابية إثر انسكاب فنجان من القهوة على لوحة مفاتيحه، وتوصل إلى حقيقة مفادها: "النفس هي أسهل ما يمكن إفسادها، وفرت عليه حبة حمراء التفكير بأنه استطاع في الوقت ذاته أن يبيع نفسه ويشتريها مع ثروة لا يحلم بها".
طبعة جيب من "رسائل فلوبير" وهو أحد الكتب الأثيرة عنده قبل تحوله، لم تستطع إعادته إلى الحياة، فاتجه إلى التلفزيون وتأثيراته المهدّئة والمقاومة للقلق حيث ينساب "الشعاع الشمسي الذي يدفئ ويملأ كهف وعيه"، زاره شبح "داني بريان" وعلى أنغام أغنية "أعد لي حظي من البافلات" كان يقرأ له "رسالة إلى الآنسة ليرواييه دي شانتوبي" من رسائل فلوبير، أعاد "الشبح" بتلك الأحداث بعض وعيه إليه، مذكرا إياه بما كان نيتشه يقوله: "الذكاء حصان جامح، يجب أن نجيد ترويضه وإطعامه الشوفان المناسب وتنظيفه وأحيانا استخدام المهماز".
تعرض "أنطوان" للخطف من أصدقائه "لآس وشارلوت وغانجا ورودولف" نقلوه إلى شقته القديمة التي غطوا جدرانها بستائر، وقرأوا عليه تعاويذ مكونة من كتاب "تأملات ميتافيزيقية لديكارت" ووأنشدوا عليه فقرات من أفكار باسكال وأعمالا أخرى بغرض إزالة السحر .
حين استعاد "انطوان" أصدقاءه، وجد "كليمانس" والحب في انتظاره، ليستأنف حياته بهدر طاقته في النقاش والتنزه على ضفاف النهر، ولعب "لعبة الأشباح": حيث يقودان بعضهما كشبحين، وينظرا إلى الناس على أرصفة المقاهي بدقة وأن يجولا الشوارع والمتاجر الصاخبة ويتسكعا مستغلين لامرئيتهما وكأنهما قد تواريا عن أنظار العالم".
160 صفحة ترجمها: حسين عمر، حملت قدرا من السخرية على عالم متماوج يضخ المعلومات التي ينساق خلفها الناس متلهين عن المعرفة التي تستحق العناء والبحث والنقاش، حياة يحسدك عليها كل من لا يعرفونها، حياة تنبض ذكاء وحبا وصداقات لا تنتهي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق